الخميس، 27 ديسمبر 2012
تأملات أدبية: إننا نتألم: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى
تأملات أدبية: إننا نتألم
هل يجوز أن يعيش الإنسان
وحيدا مبتعدا عن الناس تجنبا لأذاهم.؟ طرحت على نفسي السؤال عندما وجدت أحدهم وقد جاء
مسرعا واصطدم بي ثم أكمل سيره دون أن يلتفت أو يعتذر، غير مدرك بما سببه لكتفي من ألم
شديد.
تنحيت جانبا من الطريق
بعيدا عن المارة والسيارات وخاطبت نفسي:
"ما أبسط تجنب الشر،
فبهذه الطريقة البسيطة يمكنني تجنب الزحام والاصطدام بالمارة.
فكم من سيارات مجنونة
ومركبات متنوعة كلها تفر في نهر الشارع في عجلة محمومة، فتكون النتيجة الصدام والتوقف
والعطلة بدلا من الإسراع.
وكم من أناس تهوى المشاغبة
والعراك بلا داع والاعتداء عليك بلا مبرر، فضلا عن آخرين لا يحسنون السير بحذر فيصيبهم
أذى لا داعي له.
توهمتُ بأنني بهذا التجنب
قد وفرت على نفسي كثيرا من العناء ورحت أحمي نفسي من الضوضاء والغوغاء التي تزحم الفضاء
من حولنا.. فتقدم لنا هواء ملوثا يضج بحروف كل اللغات والأصوات.
ولكي أتمم لنفسي أسباب
الهناء رحت أسبح مع خيالاتي مستدعية كل حدث طريف، وكل فكرة رائقة، فتطفو على شفتي بسمة
خفيفة من آن لآخر تكون بمثابة درع الأمان من منجزات الآن واختراعات البشر.
ولما شعرت بكامل الراحة
وأنا أسير على مهل مستمتعة بالجو المشمس والنسيم المنعش إذا بألم شديد يعجز قدمي عن
الانتقال ومواصلة المشي.
لم يكن مصدر الألم مجهولا..
فقد ضربت قدمي اليمنى ساق اليسرى بلا إرادة ربما، أو كانت تتفادى شيئا مجهولا لا أدري،
المهم أنه حدث اعتداء من قدمي على الأخرى.
تملكتني الدهشة وحالة
من التأمل وطفر السؤال المهم.
هل تستطيع أن تمنع الأذى
عن نفسك.؟ وأن تحمي نفسك من أن تتألم.؟
هل تقدر أن تضع نفسك
في برج عال مبطن بالاسفنج حتى لا ترطدم بحائط أو بأرض.؟ ولا تخرج من بيتك حتى لا تصطدم
بسيارة أو بإنسان غليظ الطباع له يد من حديد وقلب من فولاذ.؟.. وإن استطعت هل تقدر
أن تمنع نفسك فعلا من الألم.؟!
فأنت معرض لأن تعض لسانك
وأن تطرف عينك بإصبعك، حتى وأن تصفع نفسك كفا دون قصد أو أن تجرح جلدك بظفرك، ناهيك
عن عدد مرات الشرقة والغصة ودخول الطعام في مكان الهواء، واستعراض شوكة السمك في حلقك
وقد أدخلتها بيدك إلى فمك.
كل هذا الأذى وغيره يتعرض
له الإنسان من حين لآخر فقد خلق وكتب عليه أن يتألم، وغير الأذى البدني هناك الأذى
النفسي ويكون من النفس أيضا، فقد وصف الله سبحانه وتعالى هذه النفس فقال:
"إن النفس لأمارة
بالسوء"
جريدة الزمان/
25 مايو 1999
تأملات أدبية: جسدك والأرض: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى
تأملات أدبية: جسدك والأرض
:
هل تدرك العلاقة بين جسدك والأرض.؟ تعتقد بأنك تدركها
فالإنسان مخلوق من طين وهو عنصرا الأرض الماء والتراب، ولكن هل تعتقد أنك تطورت كثيرا
عن الأرض.؟ الحقيقة لا.. بل أنت تدور في الفلك نفسه الذي تحدث فيه دورة الأرض، فأنت
تتجدد مثل الأرض تماما.. هيا نتأمل معا بعض التشابه.
جسدك مزرعة مترامية الأطراف، ففي رأسك ينبت الشعر،
وكلما تقصه من أطرافه للتخلص من حوافه البالية الجافة ينمو بدلا منه الجديد كما يحدث
في شواشي الشجر.
في أطراف أصابع يديك وقدميك تزرع الأظافر، فإن لم
تقلمها تقصفت وحدها لتبدأ في النمو من جديد أكثر قوة ربما، ومن الفكين تنمو الأسنان
وهذه يتجدد زرعها لمرة واحدة في العمر.
أما جلدك فله قصة غريبة فهو يتهرأ ويتطاير في الهواء
كما تفعل البذور وحبوب اللقاح، ويتجدد جلدك من آن لآخر، حتى أن من اسمائه الأديم مثلما
نقول أديم الأرض، وأديم كل شيء ظاهره.
كما يتجدد دمك كل ستة شهور على الأكثر.. عظامك كلما
كسرت نمت والتأمت وحدها بمضي الوقت، وجسمك يحتاج للحرث والري كالأرض تماما. والحرث
هو تمشيط الأرض وتعريض تربتها للشمس، وجسمك ينعشه الدلك وتفتيح المسام، والري هو غسل
الأرض من الأملاح والشوائب، وهو للإنسان أيضا لغسل الجسم من الأملاح والسموم.
والغريب كلما اتسعت رؤية العلم وتقدم الطب اقترب
جسدك من الأرض.. فهذا زرع نخاع، وذاك زرع قلب، وزرع قرنية، وكلية، وشرايين، وزرع شعر
وأسنان وأطراف، وأنت معرض لأن تزرع عضوا وراء عضو وأيضا تبتر عضوا وراء عضو.
فهل عزيزي المتأمل يحق لك بعد أن تتعافى من إحدى
عمليات الزرع هذه أن تتطاول بقامتك لعلك تدرك السماء، أو تحاول الخروج من الجاذبية
الأرضية.؟!
لا لن تقدر على هذا وما عليك إلا أن تتواضع لله ومن
تواضع لله رفعه.
قال الشاعر ايليا ابو ماضي:
نسي الطين ساعة أنه طين = حقير فسار
تيها وعربد
وكسا الخز جسمه فتباهى = وحوى المال كيسه فتمرد
وكيف ترضى لنفسك أن تخرج من جاذبية الأرض، والزراعة
هي أصل الحياة وبداية تعمير الكون بالاستقرار وبناء الأسرة.. والإنسان والدواب مسخران
لخدمة الأرض ومن منتجات الأرض تأكل وتلبس، ومن منظر الخضرة تستمتع وترى الكون جميلا،
والمتأمل في الزراعة.. كيف توضع البذرة في أرض سوداء، وكيف تخرج النبتة من باطن الأرض،
وتعلو وتشب وتختلف ألوانها وتختلف طعومها تشعر بحكمة عظيمة يدلنا بها الله على دورة
الكون، ودورة حياتك فالأرض تحتاج إلى السماد كما تحتاج أنت للغذاء، ومن فضلات غذائك
سماد الأرض، ومن ناتج السماد غذاء لك وأخيرا فإن الأرض تجري لمستقر لها كما أنك في النهاية تستقر في باطنها.
جريدة الزمان/ 15 يونيو 1999
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)